لا تقلب صفحة التاريخ
لا نعرف أن أحدا قارن بين غزو التَّتَار لبغداد و غزو الفرنسيين للجزائر ، بهذه الكلمات إستهل الأستاذ أبو القاسم سعد الله كتابه الحركة الوطنية الجزائرية في جزئها الأول ، ويضيف قائلا بأن المؤرخين يعرفون مسبقا أن التتار شعب متوحش وأن الفرنسيين شعب متحضر... !
لقد قال الفرنسيون بأنها حملة تأديبية إنتقامية ، تؤدي دورها ثم تعود من حيث أتت سحابة ثم تنقشع ومع ذلك فلم يبق التّتار إلا بضعة أيام أما الفرنسيون فقد بقوا أكثر من قرن .
و إذا كان الكذب رذيلة في جميع الشرائع وعند الأفراد فهو عند بعض الدول فضيلة . لقد تكلم القادة الفرنسيون عندئد بأفواه عديدة .. قالوا لشعبهم أنهم سينتقمون لشرفه المهان فأيد وتحمس ، وقالوا للبابا أنهم سيرفعون الصليب و يخفضون الهلال في الجزائر فبارك ودعا ربه بالنصر ، وقالوا لأوروبا الاقتصادية أنهم سيقضون على القرصنة و يفرضون حرية التجارة فاطمأن قلبها وسال لعابها و قالوا للجزائريين أنهم سيحررونهم من النير التركي فصدق بعض المغترين و شلت حركة بعض الغافلين . ولكن عندما صحا المغترون وأفاق الغافلون كان الذئب قد تمكن من الحمل و اللص قد سطا على الدار ولات ساعة مندم .
أي حضارة و أي إنسانية هاته التي ركبت بها فرنسا البحر لتنشرها في الجزائر ، و من هم هؤلاء المتحضرون! الذين ارسلتهم لخدمة الإنسانية ؟ و من هو هذا الجيش الذي جاء لنشر المجد والحضارة ؟ إن شهادات المعاصرين و منهم إسماعيل واوربان ، وويلسون إيسترهازي ، تذهب إلى أن جنود الحملة الفرنسية كانوا من الفلاحين ، وأنهم كانوا تماما جهلة . و قد أثبتوا أن عدد المتعلمين في الجزائر كان يفوق عدد المتعلمين في فرنسا آنذاك ، وهي التي بلغت فيها الأمية نسبة 45%
وقد كانوا متحمسين للغزو و قطع البحر لمحاربة الترك و تخليص المسيحيين منهم . وكانت لديهم فكرة رائجة أن الجزائر بلد ثري ببضائع القرصنة و تحف الشرق و ذهب إفريقيا وعبيدها فكانوا يحلمون بملء الجيوب والبطون .
عندما سقطت(سُلّمت) الجزائر ، أول ماقام به الفرنسيون هو الإستيلاء على خزينة الداي ونهبها و قد قدر الفرنسيون قيمتها ب 55.684.527 فرنك فرنسي قديم أما الحسابا ت التي أجراها الخاصة ( غير الرسمية) فقد أثبتت أن قيمتها 400.000.000 فرنك .
يقول مؤرخ فرنسي ( بول آزان ) غيور على شرفه إن الجنود الفرنسيين إرتكبوا اعمالا تخريبية حول مدينة الجزائر ، فخربوا الفيلات ( الأحواش) و قطعوا أشجار الحدائق ، وخلعوا أعمدة المنازل لأيقاد النار وثقبوا أنابيب المياه لملء أوانيهم منها و هدموا سواقي المياه لكي يسقوا حيواناتهم ، وتسببوا في تفجير مخزن للبارود مما أدى إلى عدة جرحى و لم يحافظوا حتى على صحتهم و نظافتهم ، وقد كثر المرض فيهم . فقد إشتغل الجنود بالتخريب و لم يكن في حسبانهم أي مشروع للبناء .
الآن لا مناص من القول أنه لا فرق بين التتار والفرنسيين و ربما كان التتار أكثر تحضرا ورأفة منهم ، فهم دخلوا بغداد ودمروها في أيام معدودات ورحلوا . أما هؤلاء فبقوا اكثر من قرن وربع يدمرون وينهبون و................ وما زالوا يمجدون تاريخهم ويذكرون حضارتهم وإنسانيتهم التي ألهمونا و ألهبونا بها ... !
هذه ليست سوى فاصلة من تاريخ بلادي حاولت نقلها لكم بكل أمانة من كتاب الحركة الوطنية الجزائرية ( الجزء الأول ) لأستاذنا الكبير أبو القاسم سعد الله . وهو يقول :
وكثيرا ما سألني السائلون عن سبب عدم كتابة تاريخ الثورة ، فكنت أسارع بالإجابة : ومتى كتبنا تاريخنا الآخر حتى لم يبق إلا تاريخ الثورة ؟